فصل: الخبر عن انتزاء أولاد السلطان بالمغرب الأوسط والأقصى ثم استقلال أبي عنان بملك المغرب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن انتقاض الثغور الغربية ورجوعها إلى دعوة الموحدين:

كان المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى لما قدم على السلطان أبي الحسن بتلمسان في زفاف شقيقته سنة سبع وأربعين وسبعمائة بعدما اتصل به في طريقه مهلك أبيه أوسع له السلطان كنفه ومهد له جانب كرامته وبره وغمز له بوعد في المظاهرة على ملك أبيه تعزى به عن فقده وارتحل السلطان إلى أفريقية والمولى الفضل يرجو أن يجعل سلطانها إليه حتى إذا استولى السلطان على الثغرين بجاية وقسنطينة وارتحل إلى تونس عقد له على مكان إمارته أيام أبيه ببونة فصرفه إليه فانقطع أمله وفسد ضميره وطوى على البث حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سما إلى التوثب على ملك سلفه وكان أهل قسنطينة وبجاية قد برموا من الدولة واستنقلوا وطأة الإيالة لما اعتادوا من الملك الرفيق فأشرأبوا إلى الثورة عندما بلغهم خبر النكبة وقد كان توافى بقسنطينة ركاب من المغرب في طوائف من الوفود والعساكر وكان فيهم ابن صغير من أبناء السلطان عقد له على عسكر من أهل المغرب وأوعز إليه باللحاق بتونس وفيهم عمال المغرب قدموا عند رأس الحول بجبايتهم وحسبانهم وفيهم أيضا وفد من زعماء النصارى بعثهم الطاغية ابن أدفونش مع تاشفين ابن السلطان لما أطلقه من الأسر بعدما عقد السلم والمهادنة وكان أسيرا عندهم من لدن واقعة طريف كما ذكرناه وكان أصابه مس من الجنون.
فلما خلصت الولاية بين السلطان والطاغية وعظم عنه الاتحاف والمهاداة وبلغه خبر السلطان وتملكه أفريقية أطلق ابنه تاشفين وبعث معه هؤلاء الزعماء للتهنئة وفيهم أيضا وفد من أهل مالي ملوك السودان بالمغرب أوفدهم ملكهم منسا سليمان للتهنئة بسلطان أفريقية وكان معهم أيضا يوسف بن مزبي عامل الزاب وأميره قدم بجباية عمله واتصل به خبر الركاب بقسنطينة فلحق بهم مؤثرا صحابتهم إلى سدة السلطان وتوافت هؤلاء الوفود جميعا بقسنطينة واعصوصبوا على ولد السلطان.
فلما وصل خبر النكبة اشرأب الغوغاء من أهل البلد إلى الثورة وتحلبت شفاههم إن ما بأيديهم من أموال الجباية وأحوال الثورة فنقموا عليهم سوء الملكة ودس مشيختهم إلى المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى بمكانه من بونة وقد كشف القناع في الانتزاء على عمله والدعاء لنفسه فخطبوه للأمر واستحثوه للقدوم فأغذ السير وتسامع بخبره أولياء السلطان فخشي ابن مزني على نفسه وخرج إلى معسكره بحلة أولاد يعقوب ابن علي أمير الزواودة ولجأ ابن السلطان وأولياؤه إلى القصبة ومكر بهم أهل البلد في الدفاع دونهم حتى إذا أطلت رايات المولى الفضل وثبوا بهم وحجزوهم إلى القصبة وأحاطوا بها حتى استنزلوهم على أمان عقدوه لهم ولحقوا بحلة يعقوب فعسكروا بها بعد أن نقض أهل البلاد عهدهم في ذات يدهم فاستصفوه وأشار عليهم ابن مزني باللحاق ببسكرة لتكون ركابهم إلى السلطان فارتحلوا جميعا في جوار يعقوب لما له في تلك الضواحي حتى لحقوا ببسكرة ونزلوا منها على ابن مزني خيرنزل وكفاهم كل شيء يهمهم على طبقاتهم ومقاماتهم وعناية السلطان بمن كان وافدا منهم حتى سار بهم يعقوب بن علي إلى السلطان وأوفدهم عليه في رجب من سنته واتصل الخبر بأهل بجابة بالفعلة التي فعل أهل قسنطينة فساجلوهم في الثورة وكنسوا منازل أولياء السلطان وعماله فاستباحوها واستلبوهم وأخرجوهم من بين ظهرانيهم عراة فلحقوا بالمغرب وطيروا الخبر إلى المولى الفضل واستحثوه للقدوم فقدم عليهم وعقد على قسنطينة وبونة لمن استكفى به من خاصته ورجالات دولته واحتل بجاية لشهر ربيع من سنته.
وأعاد ملك سلفه واستوسق أمره بهذه الثغور إلى أن كان من خبره مع السلطان بعد خروجه من بجاية ما نذكره إن شاء الله.

.الخبر عن انتزاء أولاد السلطان بالمغرب الأوسط والأقصى ثم استقلال أبي عنان بملك المغرب:

لما اتصل خبر النكبة بالقيروان بالأمير أبي عنان ابن السلطان وكان صاحب تلمسان والمغرب الأوسط وتساقط إليه الفل من عسكر أبيه عراة زرافات ووحدانا وأرجف الناس بمهلك السلطان بالقيروان فتطاول الأمير أبو عنان للاستئثار بسلطان أبيه دون الأبناء لما كان له من الإيثار عند أبيه لصيانته وعفافه واستظهاره القرآن فكان محلا بعين أبيه لأمثالها وكان عثمان بن يحيى بن جرار من مشيخة بني عبد الواد وأولاد يندوكسن بن طاع الله منهم وكان له محل من الدولة كما ذكرناه عند أخباره وكان السلطان أذن له في الرجوع إلى المغرب فرجع من معسكره بالمهدية ونزل بزاوية العباد من تلمسان وكان مسمتا وقورا جهينة خبر ممتعا في حديثه وكان مرجما فيه الوقوف على الحدثان وكان الأمير أبو عنان متشوقا إلى خبر أبيه ففزع إلى عثمان بن جرار في تعرفها واستدعاه وأنس به وكان في قلبه مرض من السلطان فأودع إذن الأمير أبي عنان ما أراد من الأماني بتورط السلطان في المهلكة وبشره بمصير الأمر إليه فصادف منه إذنا واعية واشتمل عليه ابن جرار من بعدها ورد الخبر بنكبة السلطان فأغراه ابن جرار بالتوثب على الملك وسول له الاستئثار به من دون إخوانه يقينا بمهلك السلطان ثم أوهمه الصدق بإرجاف الناس بموت السلطان فاعتزم وشحذ عزيمته في ذلك ما اتصل به من حافد السلطان منصور ابن الأمير أبي مالك صاحب فاس وأعمال المغرب من الانتزاء على عمله وأنه فتح ديوان العطاء واستلحق واستركب لغيبة بني مرين عن بلادهم وخلاء جوه من عساكرهم وأظهر العسكر والحشد لاستنقاذ السلطان من هوة القيروان يسد منها حسوا في ارتقاء وتفطن لشأنه الحسن بن سليمان بن يرزيكن عامل القصبة بفاس وصاحب الشرطة بالضواحي فاستأذنه باللحاق بالسلطان فأذن له راحة من مكانه وأصحبه عمال المصامدة ونواحي مراكش ليستقدمهم على السلطان بجباياتهم فلحق بالأمير أبي عنان على حين أمضى عزيمته على التوثب والدعاء لنفسه فقبض أموالهم وأخرج ما كان بموضع السلطان بالمنصورة من المال والذخيرة وجاهر بالدعاء لنفسه وجلس للبيعة بمجلس السلطان من قصره في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة فبايعه الملأ وقرأ كتاب بيعتهم على الإشهاد ثم بايعه العامة وانفض المجلس وقد عقد سلطانه ورست قواعد ملكه وركب في التعبية والآلة حتى نزل بقبة الملعب وطعم الناس وانتشروا وعقد على وزارته للحسن بن يرزيكن ثم لفارس بن ميمون بن ورداد وجعله رديفا له وتبعا ورفع مكان ابن جرار عليهم واختص لولايته ومناجاة خلوته كاتبه أبا عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمر وسنذكر خبره ثم فتح الديوان واستركب من تساقط إليه من فل أبيه وخلع عليهم ودفع إليهم أعطياتهم وأزاح عللهم وبينما هو يريد الرحلة إلى المغرب بلغه أن ونزمار بن عريف ولي السلطان وخالصته عريف بن يحيى وكان أمير زغبة لعهده ومقدما على سائر البدو وبلغه أنه قد جمع له يريد حربه وغلبه على ما صار إليه من الانتزاء والثورة على أبيه وأنه قصد تلمسان بجموعه من العرب وزناتة المغرب الأوسط فعقد للحسن بن سليمان وزيره على حربه وأعطاه الآلة وسرحه للقائه وسرح معه من حضر من بني عامر أقتال سويد وارتحل في عسكره حتى احتل تسالة وناجزه ونزمار الحرب ففلت جموعه ومنحوا أكتافهم واتبع الوزير عسكرهم واكتسح أموالهم وحللهم وعاد إلى سلطانه بالفتح والغنائم.
وارتحل الأمير أبو عنان إلى المغرب وعقد على تلمسان لعثمان بن جرار وأنزله بالقصر القديم منها حتى كان من أمره مع عثمان بن عبد الرحمن ما ذكرناه في أخبارهم.
ولما انتهى إلى وادي الزيتون وشى إليه بالوزير الحسن بن سليمان أنه مضمر الفتك به بتازى تزلفا إلى السلطان ووفاء بطاعته وأنه داخل في ذلك الحافد منصورا صاحب أعمال المغرب بما كان يظهر من طاعة جده فارتاب الأمير أبو عنان به واستظهر واشيه على ذلك بكتابه فلما قرأه تقبض عليه وقتله بالمساء خنقا وأغذ السير إلى المغرب.
وبلغ الخبر منصور بن أبي مالك صاحب فاس فزحف للقائه والتقى الجمعان بناحية تازى وبوادي أبي الأجراف فاختل مصاف منصور وانهزمت جموعه ولحق بفاس وانحجر بالبلد الجديد وارتحل الأمير أبو عنان في أثره وتسايل الناس على طبقاتهم إليه وآتوه الطاعة وأناخ بعساكره على البلد الجديد في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وأخذ بمخنقها وجمع الأيدي والفعلة على الآلات لحصارها ولحين نزوله على البلد الجديد أوعز إلى الوالي بمكانه أن يطلق أولاد أبي العلاء المعتقلين بالقصبة فأطلقهم ولحقوا به فأقاموا معه على حصار البلد الجديد وطال تمرسه بها إلى أن ضاقت أحوالهم واختلفت أهواؤهم ونزع إليه أهل الشوكة منهم ونزع إليهم عثمان بن إدريس بن أبي العلاء فيمن إليه من الحاشية بإذنه له في ذلك سرا ليمكن إليه فدس إليه وواعدوه الثورة بالبلد فثار بها واقتحمها الأمير أبو عنان عليهم ونزل منصور بن أبي مالك على حكه فاعتقله إلى أن قتله بمحبسه واستولى على دار الملك وسائر أعمال المغرب وتسابقت إليه وفود الأمصار للتهنئة بالبيعة.
وتمسك أهل سبتة بطاعة السلطان والانقياد لقائدهم عبد الله بن على بن سعيد من طبقة الوزراء حينا ثم توثبوا به وعقدوا على أنفسهم للأمير أبي عنان وقادوا عاملهم إليه وتولى كبر الثورة فيهم زعيمهم الشريف أبو العباس أحمد بن محمد بن رافع من بيت أبي الشريف من آل الحسين كانوا انتقلوا إليه من صقلية واستوسق للأمير أبي عنان ملك المغرب واجتمع إليه قومه من بني مرين للأمر وأقام مع السلطان بتونس وفاء بحقه وحص جناح أبيه عن الكرة على الكعوب الناكثين لعهده الناكبين عن طاعته فأقام بتونس يرجو الأيام ويؤمل الكرة والأطراف تنتقص والخوارج تتجدد إلى أن ارتحل إلى المغرب بعد اليأس كما نذكره إن شاء الله تعالى.